الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب}.جملةٌ مستأنفةٌ سيقتْ لتأكيد ما مرَّ من التَّسليةِ والوعد بالهداية والنَّصرِ في قوله تعالى: {وكفى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} بحكايةِ ما جرى بينَ مَن ذُكر من الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصود. واللامُ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي وبالله ولقد آتينا مُوسى التَّوراةَ أي أنزلناها عليه بالآخرةِ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظَّرف متعلِّق بجعلنا وقوله تعالى: {أَخَاهُ} مفعولٌ أوَّلٌ له وقوله تعالى: {هارون} بدلٌ من أخاه أو عطفُ بيانٍ له على عكس ما وقع في سورةِ طه وقوله تعالى: {وَزِيرًا} مفعولٌ ثانٍ له وقد مرَّ ثمَّة معنى الوزير أن جعلناه في أوَّلِ الأمر وزيرًا له.{فَقُلْنَا} لهما حينئذٍ {اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} هم فرعونُ وقومه، والآياتُ هي المعجزات التِّسعُ المفصَّلاتُ الظَّاهرُة على يَدَيْ موسى عليه السَّلامُ ولم يُوصفِ القومُ لهما عند إرسالِهما إليهم بهذا الوصف ضرورةَ تأخُّرِ تكذيب الآيات عن إظهارِها المتأخِّر عن ذهابهما المتأخِّر عن الأمر به بل إنَّما وُصفوا بذلك عند الحكايةِ لرَّسولِ الله صلى الله عليه وسلم بيانًا لعلَّة استحقاقِهم لما يُحكى بعده من التَّدميرِ أي فذهبا إليهم فأرياهُم آياتنا كلَّها فكذَّبوها تكذيبًا مُستمرًَّا {فدمرناهم} إثرَ ذلك التَّكذيبِ المستمرِّ {تَدْمِيرًا} عجيبًا هائلًا لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُدرك كُنهُه فاقتصر على حاشيتي القصَّةِ اكتفاءً بما هو المقصودُ وحَملُ قوله تعالى: {فدمَّرناهم} على معنى فحكمنا بتدميرِهم مع كونِه تعسُّفًا ظاهرًا مما لا وجَه له إذ لا فائدةَ يُعتدُّ بها في حكاية الحكم بتدميرِهم قد وقع وانقضى، والتَّعرضُ في مطلع القصَّةِ لإيتاء الكتاب مع أنَّه كان بعد مهلكِ القوم ولم يكن له مدخلٌ في هلاكهم كسائرِ الأيات للإيذانِ من أوَّلِ الأمر ببلوغِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غايةَ الكمالِ ونيله نهايةَ الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيلَ من ملكة فرعونَ وإرشادُهم إلى طريق الحقِّ بما في التَّوراة من الأحكام إذ به يحصُلُ تأكيدُ الوعدِ بالهدايةِ على الوجه الذي مرَّ بيانُه.وقرئ فدمَّرتُهم وفدمَّرنَّاهم على التَّأكيد بالنُّون الثَّقيلةِ.{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى: {فدمَّرناهم} أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمَّرناهم وليس من ضرورة ترتُّبِ تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لاسيما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى: {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أي نوحًا ومن قبله من الرُّسل أو نوحًا وحدَهُ لأنَّ تكذيَبُه تكذيبٌ للكُلِّ لاتِّفاقِهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوبٌ بمضمر يفسِّره قوله تعالى: {أغرقناهم} وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّمًا ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما تقدَّم وقوله تعالى: {أغرقناهم} استئنافٌ مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم.{وجعلناهم} أي جعلنا إغراقَهم أو قصَّتهم {لِلنَّاسِ ءايَةً} أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوٌ له أو متعلِّق بمحذوف وقع حالًا من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها {وَأَعْتَدْنَا للظالمين} أي لهم، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للإيذانِ بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ {عَذَابًا أَلِيمًا} هو عذاب الآخرة إذْ لا فائدة في الإخبار باعتاد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهم من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولًا أوليًَّا ويحتملُ العذابَ الدُّنيويَّ والأُخرويَّ {وَعَادًا} عطفٌ على قوم نوح وقيل: على المفعول الأول لجعلناهم وقيل: على محلِّ الظَّالمينَ إذ هو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ {وَثَمُودُ} الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه. وقرئ وثمودًا على تأويل الحيِّ أو على أنَّه اسمُ الأبِ الأقصى {وأصحاب الرس} هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيبًا عليه السَّلامُ فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البِئرُ التي لم تُطْوَ بعد إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم. وقيل: الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبيٌّ فقتلوه فهلكوا. وقيل: هو الأُخدودُ. وقيل: بئرٌ بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيبًا النَّجارَ. وقيل: هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ عليه السَّلامُ ابتلاهم الله تعالى بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمح فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إنْ أعوزها الصَّيدُ ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السَّلامُ فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السَّلامُ فأُهلكوا. وقيل: قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ.{وَقُرُونًا} أي أهلَ قرونٍ. قيل: القرنُ أربعونَ سنةً وقيل: سبعونَ وقيل: مائةٌ وقيل: مائةٌ وعشرون {بَيْنَ ذلك} أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعدادًا مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ. {كَثِيرًا} لا يعلم مقدارَها إلاَّ العليمُ الخبيرُ. ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤون تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ.{وَكُلًا} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ. والمحذوفُ الذي عُوِّضَ عنه التَّنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ. فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التَّأثرِ من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي بينَّا له القصصَ العجيبةَ الزَّاجرةَ عمَّا هم عليه من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرَّسلِ {وَكُلًا} أي كلَّ واحدٍ منهم لا بعضَهم دُون بعضٍ {تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} عجيبًا هائلًا لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلك ولم يرفعُوا له رأسًا وتمادَوا على ما هُم عليه من الكُفرِ والعُدوانِ. وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ. قال الزَّجَّاجُ: كلُّ شيءٍ كسرتَه وفتّتَه فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفُتاتِ الذَّهبِ والفِضَّةِ.{وَلَقَدْ أَتَوْا} جملةٌ مستأنفة مسوقة لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها. وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها، أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ {عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ} أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادةُ بقوله تعالى: {مَطَرَ السوء} وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتًا حسنًَا أي إمطارَ السَّوءِ، أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ إذِ المعنى أُعطيت أو وُلِّيتْ مطرَ السَّوءِ {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} توبيخ لهم على تركهم التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه. والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرُون إليها فلم يكونُوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ، فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ الرُّؤيةِ معًا، وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها. وقوله تعالى: {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا} إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبةِ وبيانٌ لكون عدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبةً لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغاية من خلق العالمِ، وقد كُني عن ذلك بعدم رجاءِ النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل: بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشورًا أصلًا مع تحقُّقهِ حتمًا وشمولِه للنَّاسِ عمومًا واطِّرادِه وقوعًا فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ. وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر من ترك التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ. اهـ..قال الألوسي: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب}.. إلخ.جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى: {وكفى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31] على ما قدمناه بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم السلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود.واللام واقعة في جواب القسم أي وبالله تعالى لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة، وقيل: المراد بالكتاب الحكم والنبوة ولا يخفى بعده {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظرف متعلق بجعلنا، وقوله تعالى: {أَخَاهُ} مفعول أول له وقوله سبحانه: {هارون} بدل من {أَخَاهُ} أو عطف بيان له وقوله عز وجل: {وَزِيرًا} مفعول ثان له وتقدم معنى الوزير ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ من رحمتنا أَخَاهُ هارون نَبِيًّا} [مريم: 53] لأنه وإن كان نبيًا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها كما أن الوزير متبع لسلطانه.{فَقُلْنَا اذهبا إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} هم فرعون وقومه والظاهر تعلق بآياتنا ب {كذبوا}.والمراد بها دلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق أو الآيات التي جاءت بها الرسل الماضية عليهم السلام أو التسع المعلومة.والتعبير عن التكذيب بصيغة الماضي على الاحتمالين الأولين ظاهر على الأخير قيل لتنزيل المستقبل لتحققه منزلة الماضي وتعقب بأنه لا يناسب المقام.وقال العلامة أبو السعود: لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات التسع عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير وبحث فيه بما فيه تأمل، وجوز أن يكون الظرف متعلقًا باذهبنا فمعنى {لَّمَّا كَذَّبُواْ} فعلوا التكذيب {فدمرناهم تَدْمِيرًا} عجيبًا هائلًا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه والمراد به أشد الهلاك.وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه والفاء فصيحة والأصل فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا إليهم ودعواهم إلى الايمان فكذبوهما واستمروا على ذلك فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود.وقيل: معنى فدمرناهم فحكمنا بتدميرهم فالتعقيب باعتبار الحكم وليس في الاخبار بذلك كثير فائدة.وقيل: الفاء لمجرد الترتيب وهو كما ترى.وعطف {قُلْنَا} على {جَعَلْنَا} المعطوف على {آتَيْنَا} [الفرقان: 35] بالواو التي لا تقتضي ترتيبًا على الصحيح فيجوز تقدمه مع ما يعقبه على إيتا الكتاب فلا يرد أن إيتاء الكتاب وهو التوراة بعد هلاك فرعون وقومه فلا يصح الترتيب والتعرض لذلك في مطلع القصة مع أنه لا مدخل له في إهلاك القوم لما أنه بعد للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكة فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام إذ به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي ذكر سابقًا.
|